أحب الحدود ولا أخشى صانعها, أحترمها وأبغض أحياناً متعديها. أضعها بكل ثقة وحزم, وأرفض أن يُخبرني أحدهم أن حُدادُكِ فعل شيئ ما.
وفي اللغة قد تبدو كلمة “حد” كلمة من حرفين, سهلة الفهم واضحة التركيب لا تحمل أكثر من معنى ولا تحمل التعقيدات التي تحملها ذاكرتنا عن الكلمة وعن صانعها وفي الحياة, تعطينا أغلب الأحيان انطباع قاس عند سماعها, انها شكل من أشكال المنع الذي يوقفنا عن فعل شيء نرغب به. ولكن يختلف وقعها على كل واحد منا باختلاف موقعه الجغرافي وتاريخه ومايعيشه.
فمثلاً قد يرى شخص ما أنك تضع الكثير من الحدود حولك وتتعامل مع العالم من خلف الأسوار, وقد يرى البعض أن لا شيئ يحيط بك سوى الهواء. وكلها رؤى نظرية لا يستطيع أحد منهم أن يُجزم ما هي حقيقتك وما هي حدودك. ولكن ما نستطيع أن نجزم, هو أنه من الخطأ قول أن لا حدود بين الحبيبين, ففي المعنى الرومانسي تذوب الحدود والحواجز و يصبح الحبيب هو الأقرب والأكثر علماً بعالمك الداخلي وأسرارك وأحلامك وهي كلها أمور إن أعدت ترتيبها تجدها كلها تحميها الحدود, فتصبح بقولك أن لا حدود بين الحبيبين, أنه لا حماية بين الحبيبين.والأحمق فقط من يظن أن الحدود شيئاً قاسياً يتمثل في المنع لا الحماية. لأنك في النهاية حين تعرف حدود الحبيب ويعرف حدودك, يصبح هو حصنك الأول و تصبح أنت حافزه المشتعل.
حين تعرف حدود الشريك, فأنت تعلم ما يخيفه وما يوقفه. تعرف الأحلام التي يستطيع تحقيقها دون زلة أو قلق. وتحفظ جيداً اللحظات التي تؤرقه والقرارات التي لا يتمنى اتخاذها, تعرف نقاط الضعف فلا تقترب منها, وتعلم أن أحلامه بلا حدود فلا تجعله يضعها. تعرف ماضي هذه الحدود فلا تتقصد النبش فيه. وعليك أن تعرف الفرق بين كل حدٍ وآخر فتتبناها كُلها وتتقبلها وتنسال مثل الماء من حولها وأنت تعلم جيداً أن بعض هذه الحدود من طين بمرور الماء والوقت يتهاوى بعضها بمحض إرادته ويصمد بعضها أعوام أخرى
ومن المعروف أن البلاد مثل العباد, تمتلك حدودها وتدافع عنها ولا تفتح قلبها إلا لمن تثق به. ولكنها تلزمها أيضاَ بمن تحيط بهم هذه الحدود, توضح له حقوقه وواجباته وماله من خير هذه الأرض. كما أنها تنظم العلاقات بين الدول والمجتمعات المجاورة, والحدود هنا لا يمكن أن تكون معنوية فقط. بل يجب أن تكون خطوط مرئية كالسياج والجدران, ويمكن أن تكون من صنع الطبيعة كالجبال والأنهار أو تكون في شكل آخر تعلمنا مؤخراً انه غير مُجدي وهو أن تكون خطوط تخطيطية محددة بواسطة الاتفاقات والقوانين الدولية يجب احترامها ويُحاكم أحياناً من يخترقها.
تماماً مثلما نفعل مع أطفالنا في مجموعات اللعب أو حتى في المنزل, يأخذ كل طفل لعبة ويلعب بها, يصنع منها شيئ يحبه ونُعلم الجميع أن يحترم كل طفل رغبة الأخر وألا يتعدى على لعبته ولكن يطلب منه المشاركة, فيمتثل البعض ولا يحترم الحدود البعض الآخر تماماً كما تفعل بعض الدول.ولكنني أثق أن لا طفل في العالم يخطط لأخذ لعب الجميع وكراسيهم وحقائبهم وينسبها لنفسه كما تفعل المتنمرة الأكبر في العالم.
فماذا نفعل حينها وماذا نقول؟
يقول تميم البرغوثي وفي زماننا هذا الذي تسقط فيه الأوطان عن الخرائط سقوط أوراق الخريف عن الشجر قد لا يجد الإنسان إلا حبيبه وطناً, وإن قسا كل منهما على صاحبه فعادة الأوطان أن تقسو وأن نحبها على الرغم من ذلك
ولذلك سنجد أنفسنا نبحث عن الأحباب ما حيينا, نزيد من أعدادهم كلما أخذتهم منا الأقدار نصنع منهم حدوداً تحمينا لأن كل الحدود الأخرى خذلتنا, ستجد في أحضانهم حصوناً من قهر الحروب و ركام الأحلام التي سقطت دون سابق إنذار.
سوف تعلمنا الحياة بالطريقة التي تختار أن الحدود التي نضعها نحن بإرادتنا ونبني أسوارها عالياً هي الحدود التي كان لزاماً علينا أن نجعلها مثل مكعبات اللعب, قابلة للفك والتركيب والتشكيل كلما غيرتنا الحياة نغيرها مرة أخرى لنبقى دائماً محصنين باختيارنا, أحراراً متى أردنا.
ولأن الحياة مليئة بالمفارقات ستجد أن هناك حدوداً لابد من تخطيها بل والتفنن في كل مرة تتخطاها فيها. لأنك بتخطيها تُثبت للعالم خبث نوايا البعض وقلة حيلة الآخرين وقوة صبرك واتساع حيلتك وأن الإيمان لا حدود له, وأن اليقين يحمي نفوسنا من شر العالم الذي يطال الأجساد بلا رحمة ويتحقق هذا كله لشعبٍ صبره يتسع وغير قابل للحصار.